كثرت البشارات بقدوم النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل، تارة بوصفه أستاذ العالم، وأخرى بتسميته الفارقليط، بل كان ثمة جزء كبير من رسالة عيسى عليه السلام إلى قومه قائما على التبشير بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم، لكن اليهود خاصتهم وعامتهم، ورهبانهم وأحبارهم قد انساقوا خلف الشهوات، وحادوا الله سبحانه وتعالى، بل ووقفوا ضد رسالة عيسى عليه السلام، وقاموا بقتل يحيى -عليه السلام، وغيره من أنبياء الله الذين جاءوا لهدايتهم، ورغم ذلك فإن الإنجيل لا يزال يشهد في مواضع عديدة بالحق الذي يأتي من بعد عيسى عليه السلام، والمتمثل في محمد -صلى الله عليه وسلم-ورسالته الخاتمة الخالدة.
بشارة المسيح عيسى بالنبي محمد
إن الرسالة المحددة التي بعث بها المسيح عليه السلام كانت هداية اليهود وإعادتهم عن ضلالهم وانحرافهم، وتصحيح اعتقادهم الخاطئ عن المسيح عليه السلام المنحدر من سلالة داود عليه السلام، ولإقناعهم بأن ملكوت الله على الأرض -الذي كانوا ينتظرون تحقيقه- لم يكن ليتحقق بواسطة مخلص منحدر من سلالة داود عليه السلام، ولكن من نسل إسماعيل عليه السلام اسمه أحمد، وهو الاسم الصحيح المطابق للاسم الذي نصت عليه الأناجيل اليونانية بصيغة "بركليتوس PERIQLYTOS"، وليس "باراكليت [1] PARACLETE" كما شوهته الكنائس [2].
وهذه الحقيقة يؤكدها القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف:6].
بشارة عيسى عليه السلام برسول الله
ولقد جاءت البشارات بمجيء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم في مواضع عديدة من الأناجيل، من ذلك ما ورد في إنجيل يوحنا، ونصه: "الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، وإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه مما يسمع به، ويكلمكم ويسوسكم بالحق، ويخبركم بالحوادث والغيوب"[3].
وقد اختلفت تفاسير كلمة الفارقليط اليونانية (PERIQLYTOS)؛ فمنهم من فسرها بمعني المعزي، أو المحامي والكثير الحمد، وقيل: هي كلمة آرامية الأصل، تعني المخلص من اللعنة. وقد كانت هذه الكلمة دارجة بين المؤمنين آنذاك وكانت تتعلق بخاتم الأنبياء. وقيل: هي كلمة يونانية تعني بالترجمة الحرفية لها "أحمد أو محمد" بالعربية.
والنصوص الأصلية للإنجيل باللغة الآرمية القديمة قد جاءت بكلمة محمده وحمده، وهي كلمات موازية تمامًا لكلمة محمد وأحمد في اللغة العربية، ولعل هذا التفسير الأخير لكلمة الفارقليط -وهي لفظة يونانية كما أسلفنا- يعتبر الأقرب للصواب؛ لأن الله تعالى ذكره صراحة على لسان عيسى عليه السلام في كتابه الكريم: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}، وهذا من أقوى البراهين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أن القرآن تنزيل إلهي فعلا؛ إذ لم يكن في وسع محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يعرف أن كلمة البرقليطوس [4] كانت تعني "أحمد" إلا من خلال الوحي، وهذه حجة جازمة ونهائية؛ لأن المدلول الحرفي للاسم اليوناني يعادل بدقة كلمتي "أحمد ومحمد"، ومن المدهش أن الوحي قد ميز صيغة أفعل التفضيل من غيرها، أي "أحمد" من "محمد"، ومن المدهش أيضا أن هذا الاسم الفريد لم يعط لأحد من قبل [5]؛ إذ حجز بصورة معجزة لخاتم الأنبياء والرسل وأجدرهم بالحمد والثناء؛ ذلك أن اسم برقليطوس لم يطلق على أي يوناني قط، كما أن اسم أحمد لم يطلق على أي عربي قبل النبي محمد -صلى الله عليه وسلم، صحيح أنه كان هنالك يوناني مشهور من أثينا اسمه بركليس (PERIQLYS) بمعنى الشهير، ولكن ليس بمعنى الأشهر [6].
وقد ذكر الأستاذ عبد الوهاب النجار [7] أنه سأل المستشرق الدكتور كارلو نلينو [8] المستشرق الإيطالي: ما معنى بيريكلتوس؟ فأجابه بقوله: إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها "المعزي". فقال له: إني أسأل الدكتور كارلو نلينو الحاصل على الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيسًا. فقال: إن معناها الذي له حمد كثير. فقال له: هل هذا يوافق أفعل التفضيل من "حمد" ؟ فقال: نعم. فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه أحمد. فقال: يا أخي، أنت تحفظ كثيرًا. قال الأستاذ عبد الوهاب النجار: ثم افترقنا، وقد ازددت بذلك تثبيتًا في معنى قوله سبحانه وتعالى: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [9].
وأما قوله في النص المذكور سابقا: "ويسوسكم بالحق" ففيه أيضًا دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث مكن الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم الناس بكتاب الله، الذي هو الحق المبين، فقال سبحانه وتعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة:48]. وهذا الفارقليط الأخير دلتهم عليه مجموعة من المخطوطات التي وجدت في منطقة البحر الميت، وهذه المخطوطات تعد من أهم الاكتشافات التي قد تغير الفهم التقليدي للإنجيل، كما عبر بذلك أحد كبار القساوسة، وهو القس باول ديفز رئيس كهنة كل القديسين في واشنطن؛ حيث قال: "إن مخطوطات البحر الميت -وهي من أعظم الاكتشافات منذ قرون عديدة- قد تغير الفهم التقليدي للإنجيل".
وقد جاء في هذه المخطوطات بالنص ما يلي: "إن عيسى كان مسيا المسيحيين، وأن هناك مسيا آخر". ومسيا بالآرمية تعني رسولا؛ لذلك أخبرهم المسيح عليه السلام قائلا: "ابن البشر ذاهب، والفارقليط من بعده يجيء لكم بالأسرار، ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل" [10].
فمحمد -صلى الله عليه وسلم-هو خاتم الأنبياء الذي يرشد البشرية إلى كل الحق كما جاء بنص الإنجيل: "وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية" [11].
وهذا النص الإنجيلي يؤكده صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا" [12].
بشارة يحيى عليه السلام برسول الله
وكما بشر المسيح عليه السلام بمجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يخلص الناس من ضلالاتهم وفجورهم وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة فإن يحيى عليه السلام أو يوحنا المعمدان -كما عند النصارى- أشار إلى ما يسمى الاستبدال؛ أي استبدال أمة اليهود بغيرها ممن يقيمون لواء الله، ويرفعون كلمته، كما أشار إلى مجيء الرسول الخاتم، الذي هو أعظم الرسل، ونص البشارة هو: "وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية، قائلا: توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السموات (KINGDOM OF HEAVEN)، فإنَّ هذا هو الذي قيل عنه بإشعياء النبي القائل صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة... فلما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلى معموديته، قال لهم: يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا ثمارا تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم: لنا إبراهيم أبا. لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم، والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار، أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار" [13].
فقد حاول يحيى عليه السلام يوحنا المعمدان أن يجعل اليهود من التائبين، فأمرهم صراحة بالتوبة والإنابة إلى الله، ولكنه لعلمه بعصيانهم ويأسه منهم قد أخبرهم بأنه قد تم استبدالهم بأمة أخرى، وأن الفأس قد وضعت على أصل الشجرة التي أبت أن تعطي ثمارها، وما بقي إلا مباشرة قطعها، وقد أكد لهم يحيى -عليه السلام- أن وقوع الغضب والعقاب من الله سبحانه وتعالى حادث لا محالة، ثم يتحدث عليه السلام عن النبي الذي سيأتي من بعده في الشجرة البديلة من أبناء إبراهيم عليه السلام بأنه أقوى منه، وأنه سيلغي التعميد بالماء، ويعمد الناس بالروح والنور، وكلاهما -أي الروح والنور- وصفان وصف بهما القرآن الكريم.
ولعل النبوة هنا تضيف بعدا آخر في تحديد الأمة البديلة؛ إذ لم ينكر يحيى -عليه السلام- على اليهود فكرة بقاء النبوة والأرض في أبناء إبراهيم عليه السلام، لكنه ذكرهم بأن لإبراهيم عليه السلام أبناء غيرهم، وأنه لا ينبغي لهم الاغترار بوعد الله لإبراهيم عليه السلام ببقاء النبوة في أبنائه، ونستطيع أن نفهم في وضوح تام أن الأمة البديلة ستكون من فرع آخر من أبناء إبراهيم عليه السلام، كما يدل على ذلك كلام يحيى بأن الله سيخرج لإبراهيم عليه السلام أبناء آخرين غير اليهود، وقد تحقق ذلك بأبناء إسماعيل -عليه السلام، فجاء منهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم [14].
والإنجيل بعد -بلا أدنى ريب- مليء بالبشارات التي تدلل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإننا لن نستطيع أن نستقصي كل ما جاء في الإنجيل عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، ويكفينا ما أشرنا إليه من كلام كل من عيسى ويحيى عليهما السلام.
بشارات من الإنجيل
ومن البشارات:
"13 وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين. 14 هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزه. 15 فإنهم من أمام السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب. 16 فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفني كل مجد قيدار. 17 وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل؛ لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم" [15].
وفي طبعة الموصل: "وحي على العرب".
هذا النص فيه دلالة صريحة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم في الوعر في بلاد العرب في غار حراء، وهو جبل وعر، ولم ينزل في السهل.
وقد ذكرت البشارة هجرة محمد صلى الله عليه وسلم فقالت: "هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزه". و(تيماء) من أعمال المدينة.
وقوله: "فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة (الحرب)". ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد اجتمع عليه رجال من قريش لقتله صلى الله عليه وسلم، فأنجاه الله منهم، وقد حاربته قريش حربا شديدة لا هوادة فيها مدة ثلاثة عشر عاما.
ثم أشار هذا النص إلى وقعة بدر التي وقعت بعد سنة واحدة من الهجرة، وذكر انتصار الرسول فيها، قال النص: "فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل". وهذا الذي حصل فإنه بعد سنة كسنة الأجير انتصر الرسول وجبابرة قيدار قد هلكوا. وفي طبعة ليدن سنة 1848م هكذا: "في مدة كسنة الأجير تفنى جبابرة قيدار".
وفي طبعة الموصل سنة 1875م، وطبعة ليدن سنة 1822م هكذا: "وبقية عدد أصحاب القسي الجبابرة من بني قيدار يتقللون". وبنو قيدار هم العرب، فإن قيدار هو ابن إسماعيل عليه السلام جاء في سفر التكوين: "12 وهذه مواليد إسماعيل بن إبراهيم الذي ولدته هاجر المصرية جارية سارة لإبراهيم. 13 وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار..." [16].
وجاء في إنجيل برنابا ما يلي:
97/4: فقال حينئذ يسوع: إن كلامكم لا يعزيني؛ لأنه يأتي ظلام حيث ترجون النور.
97/5: ولكن تعزيتي هي في مجال الرسول، الذي سيبيد كل رأي كاذب في، وسيمتد دينه ويعم العالم بأسره؛ لأنه هكذا وعد الله أبانا إبراهيم.
97/6: وإن ما يعزيني هو أنه لا نهاية لدينه؛ لأن الله سيحفظه صحيحا.
97/7: أجاب الكاهن: أيأتي رسل آخرون بعد مجيء رسول الله؟.
97/8: فأجاب يسوع: لا يأتي بعده أنبياء صادقون مرسلون من الله [17].
قصة واقعية
وفي نهاية هذا المقال نختم بقصة واقعية تؤكد صحة هذه البشارات، التي استطاع أحد الرهبان -ويدعى فرامرينو، وهو راهب لاتيني- اكتشاف النسخة المحررة باللغة الإيطالية من الإنجيل، ويقول في ذلك أنه لدى مطالعته عدة رسائل لأيرينايوس وجد إحداها تندد بالقديس بولس الرسول استنادا إلى إنجيل القديس برنابا. ومن هنا اهتم الراهب فرامرينو بالبحث عن هذا الإنجيل، وقد ساعدته ظروف عمله في مقر البابوية، إذ صار بعد فترة مقربا من البابا سكتس الخامس، وبذلك تمكن من دخول المكتبة البابوية، وببحثه عثر على نسخة إنجيل برنابا [18] التي كان يرنو إليها، وبعد الاطلاع عليها تأكد من صدق نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، وانتهى به الأمر باعتناق الإسلام [19].
بشارة المسيح عيسى بالنبي محمد
إن الرسالة المحددة التي بعث بها المسيح عليه السلام كانت هداية اليهود وإعادتهم عن ضلالهم وانحرافهم، وتصحيح اعتقادهم الخاطئ عن المسيح عليه السلام المنحدر من سلالة داود عليه السلام، ولإقناعهم بأن ملكوت الله على الأرض -الذي كانوا ينتظرون تحقيقه- لم يكن ليتحقق بواسطة مخلص منحدر من سلالة داود عليه السلام، ولكن من نسل إسماعيل عليه السلام اسمه أحمد، وهو الاسم الصحيح المطابق للاسم الذي نصت عليه الأناجيل اليونانية بصيغة "بركليتوس PERIQLYTOS"، وليس "باراكليت [1] PARACLETE" كما شوهته الكنائس [2].
وهذه الحقيقة يؤكدها القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف:6].
بشارة عيسى عليه السلام برسول الله
ولقد جاءت البشارات بمجيء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم في مواضع عديدة من الأناجيل، من ذلك ما ورد في إنجيل يوحنا، ونصه: "الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، وإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه مما يسمع به، ويكلمكم ويسوسكم بالحق، ويخبركم بالحوادث والغيوب"[3].
وقد اختلفت تفاسير كلمة الفارقليط اليونانية (PERIQLYTOS)؛ فمنهم من فسرها بمعني المعزي، أو المحامي والكثير الحمد، وقيل: هي كلمة آرامية الأصل، تعني المخلص من اللعنة. وقد كانت هذه الكلمة دارجة بين المؤمنين آنذاك وكانت تتعلق بخاتم الأنبياء. وقيل: هي كلمة يونانية تعني بالترجمة الحرفية لها "أحمد أو محمد" بالعربية.
والنصوص الأصلية للإنجيل باللغة الآرمية القديمة قد جاءت بكلمة محمده وحمده، وهي كلمات موازية تمامًا لكلمة محمد وأحمد في اللغة العربية، ولعل هذا التفسير الأخير لكلمة الفارقليط -وهي لفظة يونانية كما أسلفنا- يعتبر الأقرب للصواب؛ لأن الله تعالى ذكره صراحة على لسان عيسى عليه السلام في كتابه الكريم: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}، وهذا من أقوى البراهين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أن القرآن تنزيل إلهي فعلا؛ إذ لم يكن في وسع محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يعرف أن كلمة البرقليطوس [4] كانت تعني "أحمد" إلا من خلال الوحي، وهذه حجة جازمة ونهائية؛ لأن المدلول الحرفي للاسم اليوناني يعادل بدقة كلمتي "أحمد ومحمد"، ومن المدهش أن الوحي قد ميز صيغة أفعل التفضيل من غيرها، أي "أحمد" من "محمد"، ومن المدهش أيضا أن هذا الاسم الفريد لم يعط لأحد من قبل [5]؛ إذ حجز بصورة معجزة لخاتم الأنبياء والرسل وأجدرهم بالحمد والثناء؛ ذلك أن اسم برقليطوس لم يطلق على أي يوناني قط، كما أن اسم أحمد لم يطلق على أي عربي قبل النبي محمد -صلى الله عليه وسلم، صحيح أنه كان هنالك يوناني مشهور من أثينا اسمه بركليس (PERIQLYS) بمعنى الشهير، ولكن ليس بمعنى الأشهر [6].
وقد ذكر الأستاذ عبد الوهاب النجار [7] أنه سأل المستشرق الدكتور كارلو نلينو [8] المستشرق الإيطالي: ما معنى بيريكلتوس؟ فأجابه بقوله: إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها "المعزي". فقال له: إني أسأل الدكتور كارلو نلينو الحاصل على الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيسًا. فقال: إن معناها الذي له حمد كثير. فقال له: هل هذا يوافق أفعل التفضيل من "حمد" ؟ فقال: نعم. فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه أحمد. فقال: يا أخي، أنت تحفظ كثيرًا. قال الأستاذ عبد الوهاب النجار: ثم افترقنا، وقد ازددت بذلك تثبيتًا في معنى قوله سبحانه وتعالى: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [9].
وأما قوله في النص المذكور سابقا: "ويسوسكم بالحق" ففيه أيضًا دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث مكن الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم الناس بكتاب الله، الذي هو الحق المبين، فقال سبحانه وتعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة:48]. وهذا الفارقليط الأخير دلتهم عليه مجموعة من المخطوطات التي وجدت في منطقة البحر الميت، وهذه المخطوطات تعد من أهم الاكتشافات التي قد تغير الفهم التقليدي للإنجيل، كما عبر بذلك أحد كبار القساوسة، وهو القس باول ديفز رئيس كهنة كل القديسين في واشنطن؛ حيث قال: "إن مخطوطات البحر الميت -وهي من أعظم الاكتشافات منذ قرون عديدة- قد تغير الفهم التقليدي للإنجيل".
وقد جاء في هذه المخطوطات بالنص ما يلي: "إن عيسى كان مسيا المسيحيين، وأن هناك مسيا آخر". ومسيا بالآرمية تعني رسولا؛ لذلك أخبرهم المسيح عليه السلام قائلا: "ابن البشر ذاهب، والفارقليط من بعده يجيء لكم بالأسرار، ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل" [10].
فمحمد -صلى الله عليه وسلم-هو خاتم الأنبياء الذي يرشد البشرية إلى كل الحق كما جاء بنص الإنجيل: "وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية" [11].
وهذا النص الإنجيلي يؤكده صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا" [12].
بشارة يحيى عليه السلام برسول الله
وكما بشر المسيح عليه السلام بمجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يخلص الناس من ضلالاتهم وفجورهم وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة فإن يحيى عليه السلام أو يوحنا المعمدان -كما عند النصارى- أشار إلى ما يسمى الاستبدال؛ أي استبدال أمة اليهود بغيرها ممن يقيمون لواء الله، ويرفعون كلمته، كما أشار إلى مجيء الرسول الخاتم، الذي هو أعظم الرسل، ونص البشارة هو: "وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية، قائلا: توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السموات (KINGDOM OF HEAVEN)، فإنَّ هذا هو الذي قيل عنه بإشعياء النبي القائل صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة... فلما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلى معموديته، قال لهم: يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا ثمارا تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم: لنا إبراهيم أبا. لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم، والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار، أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار" [13].
فقد حاول يحيى عليه السلام يوحنا المعمدان أن يجعل اليهود من التائبين، فأمرهم صراحة بالتوبة والإنابة إلى الله، ولكنه لعلمه بعصيانهم ويأسه منهم قد أخبرهم بأنه قد تم استبدالهم بأمة أخرى، وأن الفأس قد وضعت على أصل الشجرة التي أبت أن تعطي ثمارها، وما بقي إلا مباشرة قطعها، وقد أكد لهم يحيى -عليه السلام- أن وقوع الغضب والعقاب من الله سبحانه وتعالى حادث لا محالة، ثم يتحدث عليه السلام عن النبي الذي سيأتي من بعده في الشجرة البديلة من أبناء إبراهيم عليه السلام بأنه أقوى منه، وأنه سيلغي التعميد بالماء، ويعمد الناس بالروح والنور، وكلاهما -أي الروح والنور- وصفان وصف بهما القرآن الكريم.
ولعل النبوة هنا تضيف بعدا آخر في تحديد الأمة البديلة؛ إذ لم ينكر يحيى -عليه السلام- على اليهود فكرة بقاء النبوة والأرض في أبناء إبراهيم عليه السلام، لكنه ذكرهم بأن لإبراهيم عليه السلام أبناء غيرهم، وأنه لا ينبغي لهم الاغترار بوعد الله لإبراهيم عليه السلام ببقاء النبوة في أبنائه، ونستطيع أن نفهم في وضوح تام أن الأمة البديلة ستكون من فرع آخر من أبناء إبراهيم عليه السلام، كما يدل على ذلك كلام يحيى بأن الله سيخرج لإبراهيم عليه السلام أبناء آخرين غير اليهود، وقد تحقق ذلك بأبناء إسماعيل -عليه السلام، فجاء منهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم [14].
والإنجيل بعد -بلا أدنى ريب- مليء بالبشارات التي تدلل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإننا لن نستطيع أن نستقصي كل ما جاء في الإنجيل عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، ويكفينا ما أشرنا إليه من كلام كل من عيسى ويحيى عليهما السلام.
بشارات من الإنجيل
ومن البشارات:
"13 وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين. 14 هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزه. 15 فإنهم من أمام السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب. 16 فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفني كل مجد قيدار. 17 وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل؛ لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم" [15].
وفي طبعة الموصل: "وحي على العرب".
هذا النص فيه دلالة صريحة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم في الوعر في بلاد العرب في غار حراء، وهو جبل وعر، ولم ينزل في السهل.
وقد ذكرت البشارة هجرة محمد صلى الله عليه وسلم فقالت: "هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزه". و(تيماء) من أعمال المدينة.
وقوله: "فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة (الحرب)". ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد اجتمع عليه رجال من قريش لقتله صلى الله عليه وسلم، فأنجاه الله منهم، وقد حاربته قريش حربا شديدة لا هوادة فيها مدة ثلاثة عشر عاما.
ثم أشار هذا النص إلى وقعة بدر التي وقعت بعد سنة واحدة من الهجرة، وذكر انتصار الرسول فيها، قال النص: "فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل". وهذا الذي حصل فإنه بعد سنة كسنة الأجير انتصر الرسول وجبابرة قيدار قد هلكوا. وفي طبعة ليدن سنة 1848م هكذا: "في مدة كسنة الأجير تفنى جبابرة قيدار".
وفي طبعة الموصل سنة 1875م، وطبعة ليدن سنة 1822م هكذا: "وبقية عدد أصحاب القسي الجبابرة من بني قيدار يتقللون". وبنو قيدار هم العرب، فإن قيدار هو ابن إسماعيل عليه السلام جاء في سفر التكوين: "12 وهذه مواليد إسماعيل بن إبراهيم الذي ولدته هاجر المصرية جارية سارة لإبراهيم. 13 وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار..." [16].
وجاء في إنجيل برنابا ما يلي:
97/4: فقال حينئذ يسوع: إن كلامكم لا يعزيني؛ لأنه يأتي ظلام حيث ترجون النور.
97/5: ولكن تعزيتي هي في مجال الرسول، الذي سيبيد كل رأي كاذب في، وسيمتد دينه ويعم العالم بأسره؛ لأنه هكذا وعد الله أبانا إبراهيم.
97/6: وإن ما يعزيني هو أنه لا نهاية لدينه؛ لأن الله سيحفظه صحيحا.
97/7: أجاب الكاهن: أيأتي رسل آخرون بعد مجيء رسول الله؟.
97/8: فأجاب يسوع: لا يأتي بعده أنبياء صادقون مرسلون من الله [17].
قصة واقعية
وفي نهاية هذا المقال نختم بقصة واقعية تؤكد صحة هذه البشارات، التي استطاع أحد الرهبان -ويدعى فرامرينو، وهو راهب لاتيني- اكتشاف النسخة المحررة باللغة الإيطالية من الإنجيل، ويقول في ذلك أنه لدى مطالعته عدة رسائل لأيرينايوس وجد إحداها تندد بالقديس بولس الرسول استنادا إلى إنجيل القديس برنابا. ومن هنا اهتم الراهب فرامرينو بالبحث عن هذا الإنجيل، وقد ساعدته ظروف عمله في مقر البابوية، إذ صار بعد فترة مقربا من البابا سكتس الخامس، وبذلك تمكن من دخول المكتبة البابوية، وببحثه عثر على نسخة إنجيل برنابا [18] التي كان يرنو إليها، وبعد الاطلاع عليها تأكد من صدق نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، وانتهى به الأمر باعتناق الإسلام [19].