الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: ما زلنا في رحاب سورة يوسف _عليه السلام_ والتي تعالج جملة من القضايا التربوية التي تحفظ الفرد والمجتمع،
ومن تلك القضايا أن إفشاء المنكرات وتدوالها بين الناس يسهل على ضعاف النفوس ارتكابها كذلك من القضايا المهمة، أن الشماتة مرتدة على صاحبها لا محالة، فمن لم يستطع أن يأخذ بيد المبتلى فليكف عنه شره، وليتق الخوض في أعراض الناس؛ لأنها سبيل البلاء في الدنيا والهلاك يوم الحساب، فالنسوة لما عمدن إلى التفكه بامرأة العزيز والشماتة بها بعد أن شاع خبرها وقعن في ذات البلاء.
يقول _تعالى_: "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ"(يوسف:30)..
فأولاً: في قوله: "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِدليل على أن الخبر قد انتشر مع أن الأمر كان سراً، وحاول العزيز ولكن كانت محاولة ضعيفة عندما قال ليوسف ولامرأته – أي امرأة العزيز –"يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" (يوسف:29) فانتشر الخبر، وكل سر جاوز الاثنين شاع ، وهذا جانب مهم جداً في التعامل مع الأخبار الخاصة.
ومن أخطر القضايا الاجتماعية إفشاء الأسرار الخاصة ,فكيف إذا كان مثل هذا الخبر الذي يلحق العار والشنار بصاحبه "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ"، ثم لا يصح إلا الصحيح. كيف؟ هؤلاء النسوة لم يقلن: إنه حدثت المراودة من يوسف، ولا مراودة بين يوسف وامرأة العزيز "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ"يعني هي التي تراود، وهذه شهادة ليوسف أن المراودة كانت من امرأة العزيز وليست من يوسف، وهذا يؤكد القاعدة المعروفة لا يصح إلا الصحيح ، والمرأة بهتت يوسف _عليه السلام_ ومع ذلك لا يصح إلا الثابت،ولذلك أقول لأصحاب المواقف، إذا كان موقفك سليماً وصحيحاً فاطمئن حتى لو بهتّ أو كذب عليك، سرعان ما يزول الكذب ويزول البهتان وتزول الإشاعة ولا يصح إلا الصحيح
"امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ".
وهنا وقفة عجيبة:الذي يسمع هذه الآية يتصور أن هؤلاء النسوة صالحات أو طيبات؛ لأنهن حكمن على امرأة العزيز أنها في ضلال مبين، لماذا تراود فتاها؟ ولماذا تراود يوسف؟ والواقع ليس كذلك. فهذا أولاً مكر، وكما بينالله _جل وعلا_ "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ"ثم أيضاً بقية القصة تؤكد على أنهن واصلن المراودة مع امرأة العزيز، وطلبن من يوسف _عليه السلام_ أن يستجيب لامرأة العزيز، ألم يقلن قبل ذلك إنها في ضلال مبين؟ والعبرة هنا أن البعض يريد أن يفشي سراً لبعض إخوانه أو أن ينقل خبراً فيظهر في موقف المنكر، فيقول: أرأيت كيف فعل فلان _هداه الله_ وهو غير صادق في هذا الأمر، وإنما أراد أن يفشي السر، وأن ينقل الخبر لمن لم يسمعه، وإلا فلم يكن صادقاً ولا ناصحاً.
وهكذا فعلت النسوة عندما قلن:"إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (يوسف: من الآية30) وهذا نوع من المكر الذي يقع فيه بعض الناس، فإذا بلغه خبر خاص عن بعض إخوانه، قال: أرأيت فلاناً وقع في هذا الأمر، الله المستعان، يا إخوتي فلان صاحبنا وصديقنا وقع في أمر عظيم يجب أن نقف معه، وهو يكذب لا يريد أن يقف معه ولا أن يساعده، ولكن أراد أن يفشي سره وأن ينقل خبره للآخرين بهذه الطريقة التي هي نوع من المكر.
"فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ" (يوسف: من الآية31)، وهنا جاء مرة أخرى كيد النساء، وهنا جاء "إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" (يوسف: من الآية28)، فلما سمعت بمكرهن ,
جعلت هذه الخطة العجيبة الغريبةمن أجل أن توقع هؤلاء النسوة وتبرئ نفسها لتعذر فيما فعلت، ففعلت ما فعلت، أي دعتهن وأعدت لهن هذا الإعداد للطعام ومتكأ، آتت كل واحدة منهن سكيناً، ثم قالت ليوسف: اخرج عليهن، فلما خرج عليهن، لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم. هذا نوع أيضاً نوع من مكر النساء ومكر امرأة العزيز، وهي امرأة قادرة تملك السلطة والقوة، ففعلت هذا الفعل.
ثم تأملوا شماتة هؤلاء النسوة من امرأة العزيز "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (يوسف:30)،
هذه شماتة وليست نصيحة، وهذا مزيد إفشاء للخبر فارتدت الشماتة عليهن، ولذلك حدث منهن ما حدث، فلما وضعت لهن ما وضعت وحدث ما حدث، قلن: حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم. قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه. يعني بينت أن هذا هو الذي أنتن أنكرتنه ولمتنني فيه، فإذن هن شريكات ويطلبن من يوسف _عليه السلام_ أن يستجيب للمرأة، فهذا دليل أن الشماتة ترتد على صاحبها، ولذلك يا أخي الكريم، إذا علمت أن أخاك قد ابتلي فلا تشمت به، وقلّ أن يشمت إنسان بإنسان إلا وقع في مثل ما وقع فيه، وقد ورد أثر قيل إنه حديث وهو ليس بحديث "لا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك" هذه حكمة وهي صحيحة، كم من الناس شمت بأحد إخوانه فابتلاه الله _جل وعلا_، وعاقبه الله _جل وعلا_. فإذا رأيت المبتلى فاحمد الله _جل وعلا_، واسأله السلامة والعافية حتى لا تقع في مثل ما وقع فيه.
وفي موضوع الابتلاء، نجد هناك من يشمت فيمن ابتلي بدينه ويتعاطفون مع من ابتلي بدنياه، ومن ابتلي في دينه أعظم ممن ابتلي في دنياه؛ لأن الدنيا أمرها سهل، تذهب وتأتي، ولكن الدين أمره عظيم، فلنقف مع إخواننا ولا نشمت بأحد سواء كان في أمر دين أو أمر دنيا.
وقفة أخرى المكر لا يأتي إلا بالمكر، فلما مكرن بها مكرت بهن "وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"(فاطر: من الآية43).
وهنا مسألة مهمة جداً.
إذا فشت المعصية سهل ارتكابها، وهذا باب يغفل عنه الكثير، إذا فشت المعصية في بلد أو مجتمع أو أسرة سهل ارتكابها. إذا استطعنا أن نفهم هذه الحقيقة استطعنا أن نتعامل مع كثير من القضايا، كيف؟ الأصل هو الستر على المسلم إلا من أفشى المعصية بشكل لا يصلح الستر عليه فيعاقب، ولذلك ذكر الله _تعالى_ في سورة النور "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (النور:19)
إذا تساهل الناس فأفشوا المعصية ,ارتكبها كثير من الآخرين الذين لم يكونوا ليرتكبونها لو لم تفش، كانوا يتهيبون من الوقوع فيها.
فإدراك هذه القاعدة وهذا المفهوم يحصر المعصية، بينما إفشاؤها يسهل ارتكابها على كثير من الناس، مثلاً إذا علمت أن أحد أبنائك وقع في معصية، الأصل أن تستر عليه وتعالج الموضوع بحكمة؛ لأنه إذا أفشي بين أفراد الأسرة أنه يرتكب هذه المعصية كشرب الدخان مثلاً، يسهل ارتكاب المعصية منه ومن غيره ويزداد، ولذلك نلحظ أنه لو حكم وشهد رجلان بأن رجلاً قد قتل رجلاً فإنه تقبل شهادتهما ويقتص منه، بينما في موضوع الزنا، الفاحشة لابد من أربعة شهود، لماذا؟ لأن موضوع الزنا من ناحية الفاحشة أعظم وأخطر على المجتمع، ومن ارتكب الزنا وشهد أربعة فهذا قد أفشى وفضح نفسه، أما لو شهد ثلاثة بأنهم رأوه يفعل الفاحشة، لا تقبل شهادتهم بل يقام عليهم حد القذف. كل هذا من أجل ألا تفشو الفاحشة في الذين آمنوا، فمحاصرة الفحشاء والمنكر من عوامل استقرار المجتمع، هذا جانب يغفل عنه البعض ويتساهلون فيه ويخطئون في التعامل مع أبنائهم ومع من حولهم.
نسأل الله أن يحفظ مجتمعاتنا من الفساد، وأن يرد كيد الذين يسعون لإشاعة الفاحشة بين المسلمين عبر القنوات وغيرها من سائل الإعلام، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.