المسلمة في إبانه : فبين وقت نزولها ووقت نزول سورة ( محمد ) التي
تسبقها في ترتيب المصحف ، ثلاث سنوات ، تمت فيها تغيرات هامة وخطيرة في
أحوال الجماعة المسلمة في المدينة ، تغيرات في موقفها وموقف المناؤئين لها ،
وتغيرات أهم في حالتها النفسية وصفتها الإيمانية ، واستوائها على المنهج
الإيماني في إدراك ونضج يق .
والجو الذي نزلت فيه السورة هو الجو الذي اطمأنت فيه نفس الرسول - - إلى
إلهام ربه ، فتجرد من كل إرادة إلا ما يوحيه هذا الإلهام العلوي الصادق ،
ومضى يستلهم هذا الإيحاء في كل خطوة وفي كل حركة ، لايستفزه عنه مستفز ،
سواء من المشركين أو من أصحابه الذين لم تطمئن نفوسهم في أول الأمر لقبول
استفزاز المشركين وحميتهم الجاهلية ، ثم أنزل السكينة في قلوبهم ، ففاءوا
إلى الرضى واليقين والقبول الخالص العميق .
كما جاء في الافتتاح ، الامتنان على المؤمنين بالسكينة وتبشيرهم
بالمغفرة والثواب ، وعون السماء بجنود الله : ( هو الذي أنزل السكينة في
قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً - مع إيمانهم - ولله جنود السماوات والأرض )
. ذلك مع ما أعده لأعدائهم من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات
من غضب وعذاب : ( ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ،
الظانين بالله ظن السوء ، عليهم دائرة السوء ،وغضب الله عليهم ولعنهم ،
وأعد لهم جهنم ، وساءت مصيرا ) ..
ثم التنويه ببيعة رسول الله - –واعتبارها بيعة الله ، وربط قلوب
المؤمنين بربهم مباشرة عن هذا الطريق ، بهذا الرباط المتصل مباشرة بالله
الحي الباقي الذي لا يموت : ( إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا ، لتؤمنوا
بالله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ، إن الذين يبايعونك إنما
يبايعون الله ، يد الله فوق أ يديهم ، فمن نكث فأنما ينكث علي نفسه ، ومن
أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما )
وتختم السورة بالصفة الكريمة التي تميز هذه المجموعة المختارة من البشر ،
وتفردها بسمتها الخاصة ، وتنوه بها في الكتب السابقة : التوراة والإنجيل ،
وبوعد الله الكريم بالمغفرة والأجر العظيم : ( محمد رسول الله ، والذين
معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من
الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة
ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ،
يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات
منهم مغفرة وأجراً عظيما ) ..
وهكذا تصبح نصوص السورة مفهومة ، تعيش في جوها الذي نزلت فيه ، وتصوره
أقوى تصوير ،بأسلوب القرآن الخاص الذي لايفصل الحوادث بترتيبها وتسلسلها ،
ولكنه يأخد منها لمحات توجيهية وتربويه ، ويربط الحادثة المفردة بالقاعدة
الشاملة ، والموقف الخاص بالأصل الكوني العام . ويخاطب النفوس والقلوب
بطريقته الفذة ومنهجه الفريد .