دأب كثير من المسلمين في هذا الشهر -شهر ربيع الأول- أن يستحضروا سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يُعَبِّروا عن حُبِّهم له، وتعلُّقهم به، وشدَّة التقدير له؛ لغلبة اعتقادهم أنه صلى الله عليه وسلم وُلد في الثاني عشر منه.
إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أهل لأن يُعَظَّم في سائر أيام السنة، وأنْ تُذْكَر سيرته العطرة في كل لحظة؛ لأنه المبلِّغ لرسالة ربِّ العالمين، الهادي إلى سواء السبيل.. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم إلى النار إلا قد نهيتكم عنه» (السلسلة الصحيحة).
إن البريّةَ يومَ مبعثِ أحمـدٍ *** نَظرَ الإله لهـا فبدّل حالهَـا
بل كرّمَ الإنسانَ حين اختار *** من خيرِ البريةِ نجمَها وهلالهَا
غير أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتضي التقيد بضوابط الشرع؛ حتى لا تزيغ إلى نوع من المغالاة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ فقد وجدنا أناسًا يرفعون مقدار النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة زعموا معها أن ليلة المولد خير من ليلة القدر، التي بيَّن القرآن الكريم أنها خير من ألف شهر؛ بل ورفعوه إلى درجة الألوهية، وأسبغوا عليه صفات لا تجوز إلاَّ في حقَّ الله تعالى؛ كادِّعائهم أنه يعلم الغيب، وأنه ليس مِن مِثْلِ البشر، بل هو نور من الله الذاتي، وأنه يُدخِل الجنةَ من يشاء، واعتقاد أنه يُسأل جلبَ النفع ودفعَ الضر، حتى قال قائلهم:
يا أكرمَ الخلقِ علـى ربـه *** وخيرَ منْ فيهمْ به يُـسألُ
قد مسَّني الكربُ وكمْ مرةٍ *** فَرَّجتَ كرباً بعضُه يُعضِلُ
عجِّل بإذهابِ الذي أَشتكي *** فإنْ توقَّفتَ فمنْ أَسـألُ؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» (البخاري). والإطراء هو الإفراط في المديح، ومجاوزة الحدِّ فيه.
ولما ناداه بعض الناس وقالوا: "يا خيرَنا وابنَ خيرنا، وسيدَنا وابنَ سيدنا". قال لهم صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسولُه، ما أُحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيَ الله عز وجل» (رواه أحمد وهو في الصحيحة).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فراجعه في بعض الكلام، فقال: ما شاء الله وشئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجعلتني مع الله عدلاً؟ لا، بل ما شاء الله وحده» (السلسلة الصحيحة).
الرب ربٌّ والرسول فعبده *** حقًّا وليس لنا إله ثـان
لله حق لا يكـون لغيـره *** ولعبده حق هما حقـان
ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولد يوم الاثنين، فإنه لم يُشرع في هذا اليوم إلا أن يعظم الرب -عز وجل- بصيامه. فعن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل علي فيه» (رواه مسلم).
أما أن يتخذه الناس يومًا للأهازيج والأغاني والرقص، والتفنن في أنواع الطعام، وإيقاد الشموع والمصابيح.. مع ما تسرب لبعضهم مِنَ اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر في ليلة المولد، ويُرى يقظة لا منامًا، أو تحضرُ روحه، فيقفون إجلالاً لها.. إلى غير ذلك، فما عُلم ذلك عن السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة، ولو كان خيرًا لسبقنا إليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.. والأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم والصلاح.
قال ابن الحاج المالكي في (المدخل): "العجب العجيب، كيف يعملون المولد بالمغاني والفرح والسرور؟". وقال الحافظ أبو زرعة العراقي -رحمه الله-: "لا نعلم ذلك ولو بإطعام الطعام عن السلف".
إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقية، لا تقف عند هذه المظاهر المستحدثة، بل تقتضي تفضيله على كلِّ غالٍ ونفيس. قال صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين» (متفق عليه).
وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلاَّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إليَّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر» (رواه البخاري).
فإن أبي ووالده وعرضـي *** لعرض محمد منكم فـداء
وإن محبته تقتضي حسن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، وجميل اتباع أوامره؛ ولذلك قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. قال الحسن البصري: "زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية". وقال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل مَنِ ادَّعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في الأمر نفسه، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدينَ النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»".
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "فمحب الله ورسوله، يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى، وإن زعم أنه من المحبين.. فكيف يصح لعبدٍ أن يدّعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت، ولا لحقوقه إذا ضيعت؟".
وهذا ما انتشر في هذا الزمان، ترى أحدهم إذا استمع قصائد المدح تمايل ورقص، وربما لا يصلي الفريضة في وقتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن أي العمل أحب إلى الله فيقول: «الصلاة على وقتها» (متفق عليه). وربما يمشي بين الناس بالغيبة والنميمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة نمّام/ قتات» (متفق عليه). وربما يسرق ويأخذ الرشوة ويأكل أموال الناس بالباطل، ويتهاون في وظيفته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (مسلم).
تعصي الإله وأنت تزعم حبـه *** هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقـًا لأطعته *** إن المحـب لمن يحب مطيـع
لقد كانت محبة السلف للنبي صلى الله عليه وسلم محبة عملية، تجد صداها على أرض الواقع.
- فهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- يقول: "ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه" (مسلم).
- وهذا أبو طلحة يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد حين اشتد بالمسلمين البأس، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "بأبي أنت وأمي، لا تُشْرِف (لا تطل برأسك)، لا يصبْك سهم من سهام القوم، نَحْري دون نحرك" (متفق عليه).
- ولما نزل قول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، مرَّ رجل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من الأنصار يصلون -وهم ركوع- نحو بيت المقدس، فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وُجِّه إلى الكعبة. فتحرفوا نحو الكعبة" (متفق عليه).
فكم منَّا مَنْ يسمع حديث رسول الله يذكر، وأوامره ونواهيه تنشر، ولا يأبه لذلك، ولا يلتفت إليه، وقد يزعم -مع ذلك- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
- قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: "إنا كنا إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا".
- وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "كنت في بيت أبي طلحة، وعنده أُبَيُّ بن كعب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وأنا أسقيهم شرابًا، حتى إذا أخذ فيهم، إذا رجل من المسلمين ينادي: ألا إن الخمر قد حُرِّمت. فوالله ما انتظروا حتى يعلموا أو يسألوا عن ذلك. فقالوا: يا أنس، أَكْفِئْ ما في إنائك. قال: فكفأته. فما عادوا فيها حتى لقوا الله" (مسلم).
- وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه وقال: «يَعْمِدُ أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟». فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله، لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم" (مسلم).
هكذا تكون محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: طاعة، وامتثال، وخضوع، وإيثار على الذات والملذات، وهيبة مخالفته في الجلوات والخلوات.
إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أهل لأن يُعَظَّم في سائر أيام السنة، وأنْ تُذْكَر سيرته العطرة في كل لحظة؛ لأنه المبلِّغ لرسالة ربِّ العالمين، الهادي إلى سواء السبيل.. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم إلى النار إلا قد نهيتكم عنه» (السلسلة الصحيحة).
إن البريّةَ يومَ مبعثِ أحمـدٍ *** نَظرَ الإله لهـا فبدّل حالهَـا
بل كرّمَ الإنسانَ حين اختار *** من خيرِ البريةِ نجمَها وهلالهَا
غير أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتضي التقيد بضوابط الشرع؛ حتى لا تزيغ إلى نوع من المغالاة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ فقد وجدنا أناسًا يرفعون مقدار النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة زعموا معها أن ليلة المولد خير من ليلة القدر، التي بيَّن القرآن الكريم أنها خير من ألف شهر؛ بل ورفعوه إلى درجة الألوهية، وأسبغوا عليه صفات لا تجوز إلاَّ في حقَّ الله تعالى؛ كادِّعائهم أنه يعلم الغيب، وأنه ليس مِن مِثْلِ البشر، بل هو نور من الله الذاتي، وأنه يُدخِل الجنةَ من يشاء، واعتقاد أنه يُسأل جلبَ النفع ودفعَ الضر، حتى قال قائلهم:
يا أكرمَ الخلقِ علـى ربـه *** وخيرَ منْ فيهمْ به يُـسألُ
قد مسَّني الكربُ وكمْ مرةٍ *** فَرَّجتَ كرباً بعضُه يُعضِلُ
عجِّل بإذهابِ الذي أَشتكي *** فإنْ توقَّفتَ فمنْ أَسـألُ؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» (البخاري). والإطراء هو الإفراط في المديح، ومجاوزة الحدِّ فيه.
ولما ناداه بعض الناس وقالوا: "يا خيرَنا وابنَ خيرنا، وسيدَنا وابنَ سيدنا". قال لهم صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسولُه، ما أُحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيَ الله عز وجل» (رواه أحمد وهو في الصحيحة).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فراجعه في بعض الكلام، فقال: ما شاء الله وشئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجعلتني مع الله عدلاً؟ لا، بل ما شاء الله وحده» (السلسلة الصحيحة).
الرب ربٌّ والرسول فعبده *** حقًّا وليس لنا إله ثـان
لله حق لا يكـون لغيـره *** ولعبده حق هما حقـان
ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولد يوم الاثنين، فإنه لم يُشرع في هذا اليوم إلا أن يعظم الرب -عز وجل- بصيامه. فعن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل علي فيه» (رواه مسلم).
أما أن يتخذه الناس يومًا للأهازيج والأغاني والرقص، والتفنن في أنواع الطعام، وإيقاد الشموع والمصابيح.. مع ما تسرب لبعضهم مِنَ اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر في ليلة المولد، ويُرى يقظة لا منامًا، أو تحضرُ روحه، فيقفون إجلالاً لها.. إلى غير ذلك، فما عُلم ذلك عن السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة، ولو كان خيرًا لسبقنا إليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.. والأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم والصلاح.
قال ابن الحاج المالكي في (المدخل): "العجب العجيب، كيف يعملون المولد بالمغاني والفرح والسرور؟". وقال الحافظ أبو زرعة العراقي -رحمه الله-: "لا نعلم ذلك ولو بإطعام الطعام عن السلف".
إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقية، لا تقف عند هذه المظاهر المستحدثة، بل تقتضي تفضيله على كلِّ غالٍ ونفيس. قال صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين» (متفق عليه).
وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلاَّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إليَّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر» (رواه البخاري).
فإن أبي ووالده وعرضـي *** لعرض محمد منكم فـداء
وإن محبته تقتضي حسن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، وجميل اتباع أوامره؛ ولذلك قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. قال الحسن البصري: "زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية". وقال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل مَنِ ادَّعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في الأمر نفسه، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدينَ النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»".
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "فمحب الله ورسوله، يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى، وإن زعم أنه من المحبين.. فكيف يصح لعبدٍ أن يدّعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت، ولا لحقوقه إذا ضيعت؟".
وهذا ما انتشر في هذا الزمان، ترى أحدهم إذا استمع قصائد المدح تمايل ورقص، وربما لا يصلي الفريضة في وقتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن أي العمل أحب إلى الله فيقول: «الصلاة على وقتها» (متفق عليه). وربما يمشي بين الناس بالغيبة والنميمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة نمّام/ قتات» (متفق عليه). وربما يسرق ويأخذ الرشوة ويأكل أموال الناس بالباطل، ويتهاون في وظيفته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (مسلم).
تعصي الإله وأنت تزعم حبـه *** هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقـًا لأطعته *** إن المحـب لمن يحب مطيـع
لقد كانت محبة السلف للنبي صلى الله عليه وسلم محبة عملية، تجد صداها على أرض الواقع.
- فهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- يقول: "ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه" (مسلم).
- وهذا أبو طلحة يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد حين اشتد بالمسلمين البأس، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "بأبي أنت وأمي، لا تُشْرِف (لا تطل برأسك)، لا يصبْك سهم من سهام القوم، نَحْري دون نحرك" (متفق عليه).
- ولما نزل قول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، مرَّ رجل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من الأنصار يصلون -وهم ركوع- نحو بيت المقدس، فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وُجِّه إلى الكعبة. فتحرفوا نحو الكعبة" (متفق عليه).
فكم منَّا مَنْ يسمع حديث رسول الله يذكر، وأوامره ونواهيه تنشر، ولا يأبه لذلك، ولا يلتفت إليه، وقد يزعم -مع ذلك- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
- قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: "إنا كنا إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا".
- وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "كنت في بيت أبي طلحة، وعنده أُبَيُّ بن كعب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وأنا أسقيهم شرابًا، حتى إذا أخذ فيهم، إذا رجل من المسلمين ينادي: ألا إن الخمر قد حُرِّمت. فوالله ما انتظروا حتى يعلموا أو يسألوا عن ذلك. فقالوا: يا أنس، أَكْفِئْ ما في إنائك. قال: فكفأته. فما عادوا فيها حتى لقوا الله" (مسلم).
- وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه وقال: «يَعْمِدُ أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟». فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله، لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم" (مسلم).
هكذا تكون محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: طاعة، وامتثال، وخضوع، وإيثار على الذات والملذات، وهيبة مخالفته في الجلوات والخلوات.