الحديث الـ 64
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أثقل صلاة
على المنافقين : صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو
حبوا ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتُقام ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ، ثم أنطلق
معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار
.
في الحديث مسائل :
1 = من روايات الحديث :
في رواية للبخاري : ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء ، ولو يعلمون
ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ، لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم ، ثم آمر رجلا يؤم
الناس ، ثم آخذ شعلا من نار فأحرّق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد .
وفي رواية لمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناسا في بعض الصلوات
فقال : لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها
فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا
لشهدها . يعني صلاة العشاء .
ورواية مسلم لحديث الباب بلفظ : إن أثقل صلاة على المنافقين .
( صلاة ) بالإفراد والتنكير في رواية البخاري ومسلم .
وفي بعض نُسخ العمدة ( أثقل الصلاة ) وفي بعضها ( أثقل الصلوات ) .
وفي المسند وعند أبي داود من حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه قال : صلى بنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الصبح فقال : أشاهد فلان ؟ قالوا : لا . قال
: أشاهد فلان ؟ قالوا : لا . قال : إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على
المنافقين ، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على الرُّكب .
2 = جاء في الكتاب العزيز ثِقَل الصلوات
على المنافقين في قوله تعالى : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى )
وفي هذا الحديث أن أثقل صلاة على المنافقين هي العشاء والفجر .
فكيف يُجمع بينهما ؟
الجواب :
أن جميع الصلوات ثقيلة على المنافقين ، والعشاء والفجر أثقل من سائر الصلوات .
ألا ترى أن المحافظة على الصلوات الخمس من أسباب دخول الجنة ، بينما جاء النصّ
على فضل العصر والفجر ؟
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : من صلى البَرْدَين دخل الجنة . رواه البخاري
ومسلم من حديث أبي موسى .
وهذا لا يعني أن من لم يُصلِّ سوى العصر والفجر دخل الجنة ، ولكنه يعني أن مَن
حافظ على البردين فهو لما سواهما أحفظ .
3 = صلاة الفجر مقياس الإيمان عند السلف
.
قال ابن عمر رضي الله عنهما : كنا إذا فقدنا لإنسان في صلاة العشاء الآخرة
والصبح أسأنا به الظن . رواه ابن أبي شيبة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه
ورواه البيهقي في الكبرى .
لكن لا يُستعجل في الحُـكم على من تخلّف عنها ، فقد يكون تخلّفه لعذر .
بمعنى أنه قد يكون معذورا في التخلّف عن صلاة الجماعة .
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ونحن عنده ، فقالت : يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا
صليت ، ويفطرني إذا صمت ، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس . قال وصفوان
عنده ، فسأله عما قالت ؟ فقال : يا رسول الله أما قولها يضربني إذا صليت ،
فإنها تقرأ بسورتين ، وقد نهيتها . قال : فقال : لو كانت سورة واحدة لكفت الناس
، وأما قولها يفطرني ، فإنها تنطلق فتصوم ، وأنا رجل شاب فلا أصبر ! فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : لا تصوم امرأة إلا بأذن زوجها ، وأما قولها
إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك ، لا نكاد نستيقظ حتى
تطلع الشمس . قال : فإذ استيقظت فصلّ . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
والشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُبادِر صفوان بالحُـكم
عليه بالنفاق لمجرّد تخلّفه عن صلاة الفجر .
4 = في الحديث بيان أن المنافقين كانوا
يُصلُّون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحُـكِـمَ بنفاقهم .
فكيف بمن لا يُصلِّي أصلاً ؟!
5 = قوله صلى الله عليه وسلم : " ولو
يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا " أي لو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوا إلى
الصلوات حبوا ولو على الرُّكَب ، كما في حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه .
وهذا دالٌّ على عِظم أجر صلاتي العشاء والفجر ، لما فيهما من المشقّة .
وفي حديث أبي هريرة – المتفق عليه – : لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول
ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا
إليه ، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا .
6 = معنى " ولو حبواً "
قال صاحب العين : حبا الصبي يحبوا حبوا زحف . قال ابن دريد : إذا مشى على أسته
وأشرف بصدره . وقال الحربي : مشى على يديه . نقله القاضي عياض .
7 = قوله صلى الله عليه وسلم : " ولقد
هممت أن آمر بالصلاة فتُقام ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس " فيه جواز الاستنابة
في الإمامة للحاجة .
وفيه جواز التخلّف عن الجماعة للمصلحة ، كأن يتخلّف المحتسِب على المتخلِّفين
عن صلاة الجماعة .
8 = الهمّ دون العَزم
قال الخطابي في غريب الحديث : وأصل العزم القوة . قال تأبط شرا :
وكنت إذا ما هممت اعتزمت وأولى إذا قلت أن أفعلا
وقال القاضي عياض : قوله " إذا هم أحدكم بأمر " أي قصده واعتمده بهمته ، وهو
بمعنى عزم .
وقال الجرجاني في التعريفات : الهمّ هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من
خير أو شر .
9 = سبب عدول النبي صلى الله عليه وسلم
عن إيقاع هذه العقوبة ؟
في رواية لأحمد : لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت
فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار .
10 = العقوبات المالية
هل يُعاقب أو يُعزّر بالمال ؟
إذا كان يجوز أن يُعزّر بالقتل ، فالمال لا شك أنه دون النّفس ، فيُمكن أن
يُعزّر به .
وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : في
كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون ، ولا يفرق إبل عن حسابها ، من أعطاها مؤتجرا
فله أجرها ، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله ، عزمة من عزمات ربنا عز وجل .
رواه الإمام أحمد وأبو داود .
قال ابن القيم : وقد قال علي بن المديني حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح
، وقال الإمام أحمد : بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده صحيح . وليس لمن ردّ هذا
الحدث حجة ، ودعوى نسخه دعوى باطلة إذ هي دعوى ما لا دليل عليه ، وفي ثبوت
شرعية العقوبات المالية عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت نسخها
بحجة ، وعَمِلَ بها الخلفاء بعده .
وقال أيضا في فوائد أقضيته صلى الله عليه وسلم : إثبات العقوبات المالية ، وفيه
عِدة سنن ثابتة لا معارض لها ، وقد عمل بها الراشدون وغيرهم من الصحابة رضي
الله عنهم ، وأكثر من عمل بها عمر رضي الله .
وقال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر عِدّة أمثلة في التعزير بالمال ،
فقال : ومثل أمر عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب بتحريق المكان الذي يباع فيه
الخمر ، ومثل أخذ شطر مال مانع الزكاة ، ومثل تحريق عثمان بن عفان المصاحف
المخالفة للإمام ، وتحريق عمر بن الخطاب لكتب الأوائل ، وأمره بتحريق قصر سعد
بن أبى وقاص الذي بناه لما أراد أن يحتجب عن الناس ، فأرسل محمد بن مسلمة وأمره
أن يحرّقه عليه ، فذهب فحرقه عليه ، وهذه القضايا كلها صحيحة معروفة عند أهل
العلم بذلك ، ونظائرها متعددة .
ومن قال : إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد فقد غلِط
على مذهبهما ، ومن قاله مطلقا من أي مذهب كان فقد قال قولا بلا دليل ، ولم يجيء
عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قط يقتضى أنه حرّم جميع العقوبات المالية ، بل
أخْذ الخلفاء الراشدين وأكابر أصحابه بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير
منسوخ ، وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه ، وبعضها قول عند
الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث ، ومذهب مالك وأحمد وغيرهما أن القعوبات
المالية كالبدنية تنقسم إلى ما يوافق الشرع والى ما يخالفه ، وليست العقوبة
المالية منسوخة عندهما ، والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ لا من كتاب ولا
سنة ، وهذا شأن كثير ممن يُخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة إلا
مجرد دعوى النسخ ، وإذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر : أهل المدينة يَرَون العقوبات المالية
مشروعة حيث مضت بها سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين ، كما أن العقوبات
البدنية مشروعة حيث مضت بها السنة ، وقد أنكر العقوبات المالية من أنكرها من
أهل الكوفة ومن اتبعهم وادعوا أنها منسوخة ومن أين يأتون على نسخها بحجة ، وهذا
يفعلونه كثيرا إذا رأوا حديثا صحيحا يُخالف قولهم ، وأما علماء أهل المدينة
وعلماء الحديث فرأوا السنن والآثار قد جاءت بالعقوبات المالية كما جاءت
بالعقوبات البدنية ؛ مثل كسر دنان الخمر وشق ظروفها وتحريق حانوت الخمار ، كما
صنع موسى بالعجل وصنع النبي صلى الله عليه وسلم بالأصنام ، وكما أمر عليه
السلام عبد الله بن عمرو بتحريق الثوبين المعصفرين ... إلخ .
وحديث عبد الله بن عمرو الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رواه مسلم عن عبد
الله بن عمرو قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين ، فقال :
أأمك أمرتك بهذا ؟! قلت : أغسلهما . قال : بل أحرقهما .
وقال النووي : قال بعضهم : في هذا الحديث دليل على أن العقوبة كانت في أول
الأمر بالمال ، لأن تحريق البيوت عقوبة مالية ، وقال غيره : أجمع العلماء على
منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة والغالّ من الغنيمة ، واختلف
السلف فيهما ، والجمهور على منع تحريق متاعهما . اهـ .
وقال الحافظ العراقي : فِيهِ جَوَازُ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ مِنْ قَوْلِهِ "
نُحَرِّقُ بُيُوتًا " وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى
أَنَّ الْعُقُوبَاتِ بِالْمَالِ مَنْسُوخَةٌ بِنَهْيِهِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا مِنْ بَابِ مَا لا يَتِمُّ
الْوَاجِبُ إلا بِهِ ؛ لأَنَّهُمْ قَدْ يَخْتَفُونَ فِي مَكَان لا يُعْلَمُ
فَأَرَادَ التَّوَصُّلَ إلَيْهِمْ بِتَحْرِيقِ الْبُيُوتِ . اهـ .
والتعليل بالمنع من العقوبات المالية بإضاعة المال لا يستقيم ؛ لأن الذي نهى عن
إضاعة المال هو الذي أمر بالعقوبات المالية .
ودعوى النسخ لا يُسلَّم بها ، وقد سبق تفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا
الأمر .
11 = هل يجوز التحريق بالنار ؟
روى البخاري من طريق عن عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرّق قوما ، فبلغ ابن عباس
رضي الله عنهما ، فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : لا تعذبوا بعذاب الله ، ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من
بدل دينه فاقتلوه .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : قرصت نملة نبياً من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأُحرِقت ،
فأوحى الله إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح ؟
12 = فيه دليل على وجوب صلاة الجماعة
قال الإمام النووي :
هذا مما استدل به من قال الجماعة فرض عين ، وهو مذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وأبي
ثور وابن خزيمة وداود . وقال الجمهور : ليست فرض عين ، واختلفوا هل هي سنة أم
فرض كفاية ؟
وأجابوا عن هذا الحديث بأن هؤلاء المتخلفين كانوا منافقين ، وسياق الحديث
يقتضيه ، فإنه لا يُظن بالمؤمنين من الصحابة أنهم يؤثرون العظم السمين على حضور
الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجده ، ولأنه لم يحرق بل همّ به
ثم تركه ، ولو كانت فرض عين لما تركه . اهـ .
والصحيح وُجوب صلاة الجماعة على غير أهل الأعذار لأحاديث كثيرة ، منها قوله
عليه الصلاة والسلام : من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر . رواه
ابن ماجه .
قال الترمذي : وقال بعض أهل العلم : هذا على التغليظ والتشديد ، ولا رخصة لأحد
في ترك الجماعة إلا من عذر . اهـ .
نعم هي ليست فرض عين ؛ لأن فرض العين لا يُعذر أحد بتركه ، وصلاة الجماعة تسقط
بالعُذر .
ومن الأدلة الدالة على وجوب حضور الجماعة ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال : يا رسول الله إنه
ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرخِّص
له فيُصلي في بيته ، فرخّص له ، فلما ولّى دعاه ، فقال : هل تسمع النداء
بالصلاة ؟ فقال : نعم . قال : فأجب .
13 =
" فِيهِ تَقْدِيمُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ . قَالَ ابْنُ
دَقِيقِ الْعِيدِ : وَسِرُّهُ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إذَا ارْتَفَعَتْ
بِالأَهْوَنِ مِنْ الزَّوَاجِرِ اُكْتُفِيَ بِهِ عَنْ الأَعْلَى " قاله الحافظ
العراقي .
وهذه يؤخذ منها درس في التربية ، في تربية الأولاد ، وفي تربية الطلاّب أو
الطالبات ، فيُقدّم الوعيد على مَن فعل كذا – مثلاً – ولكن تؤخّر العقوبة
وتُرجى ، ويُجعل مكانها العفو .
والله تعالى أعلى وأعلم .