أسباب معركة ليبانتو(*)
ارتعدت فرائص الأمم المسيحية من الخطر الإسلامي العظيم الذي هدد القارة الأوروبية، من جراء تدفق جيوش الدولة العثمانية براً وبحراً فأخذ البابا بيوس الخامس (1566 - 1572م) يسعى من جديد لجمع شمل البلاد الأوروبية المختلفة وتوحيد قواها براً وبحراً تحت راية البابوية [1] وقد كتب يقول: "... إن السلطنة التركية قد تبسطت تبسطاً هائلاً بسبب نذالتنا" [2].
القوى الصليبية ضد العثمانيين
عقد البابا بيوس الخامس وفيليب الثاني ملك إسبانيا وجمهورية البندقية معاهدة في أوائل 979هـ/ مايو 1571م، تعهدوا فيه بالقيام بهجوم بحري ضد العثمانيين، شارك في الحلف كذلك بعض المدن الإيطالية، وذلك بعد تحريك بيوس الخامس لروح التحالف، فارتبطت توسكاني وجنوة، وسافوي، وبعض الإيطاليين في الحلف المقدس [3].
وأرسل البابا بيوس الخامس إلى ملك فرنسا يريد العون، فاعتذر شارل التاسع بحجة ارتباطه بمعاهدات مع العثمانيين، فأجابه البابا طالباً منه التحلل من مواثيقه هذه، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى نقض الإمبراطور عهوده ومواثيقه التي أبرمها مع العثمانيين، واتجه نحو إيفان ملك الروس يطلب إجابته نفير الحرب، ووجد تباطؤاً عند ملك بولونيا، واختير (دون جوان) النمساوي قائداً للحملة وجاء في أحد بنود المعاهدة النصرانية: "إنَّ البابا بيوس الخامس وفيليب ملك إسبانيا وجمهورية البندقية، يعلنون الحرب الهجومية والدفاعية على الأتراك؛ لأجل أن يستردوا جميع المواقع التي اغتصبوها من المسيحيين، ومن جملتها تونس والجزائر وطرابلس" [4].
الاستعداد لمعركة ليبانتو
سار دون جون إلى البحر الأدرياتيك، حتى وصل إلى الجزء الضيق من خليج كورنث بالقرب من باتراس وليس ببعيدة عن ليبانتو والذي اسمها أعطى للمعركة.
كان من رأي قادة الأسطول الإسلامي الإفادة من تحصين الخليج وعدم الاشتباك بالأسطول الصليبي، غير أن القائد العام علي باشا صمم على الخروج للمعركة معتمداً على تفوقه في عدد سفنه، ونظم علي باشا قواته فوضع سفنه على نسق واحد من الشمال إلى الجنوب، بحيث كانت ميمنتها تستند إلى مرفأ ليبانتو، ومسيرتها في عرض البحر، وقد قسمها علي باشا إلى جناحين وقلب، فكان هو في القلب وسيروكو في الجناح الأيمن وبقي الجناح الأيسر بقيادة قلج علي.
ومقابل ذلك نظم دون جون قواته فوضع سفنه على نسق يقابل النسق الإسلامي ووضع جناحه الأيمن بقيادة دوريا مقابل قلج علي، وأسند قيادة جناحه الأيسر إلى بربريجو مقابل سيروكو وجعل دون نفسه لقيادة القلب وترك أسطولاً احتياطياً بقيادة سانت كروز [5].
احتدام معركة ليبانتو
احتدمت معركة ليبانتو في 17 جمادي الأولى سنة 979هـ/ 17 أكتوبر 1571م، أحاط الأسطول الإسلامي بالأسطول المسيحي، وأوغل العثمانيون بين سفن العدو، ودارت معركة قاسية أظهر فيها الفريقان بطولة كبيرة وشجاعة نادرة [6].
خسائر الأسطول العثماني في المعركة
وشاءت إرادة الله هزيمة المسلمين ففقدوا ثلاثين ألف مقاتل، وقيل عشرين ألفاً، وخسروا 200 سفينة حربية، منها 93 غرقت، والباقي غنمه العدو وتقاسمته الأساطيل النصرانية المتحدة [7]، وأسر لهم عشرة آلاف رجل [8]، واستطاع قلج علي إنقاذ سفنه، واستطاع كذلك المحافظة على بعض السفن التي غنمها، ومن بينها السفينة التي تحمل عمل البابا، رجع بها لإسطنبول، التي استقبلته استقبال الفاتحين، رغم الشعور بمرارة الهزيمة [9]، وبادر السلطان سليم الثاني أثر ذلك بترفيع قلج علي إلى رتبة قائد البحرية العثمانية "قبودان باشا"، مع الاستمرار في منصبه كبيرلبك للجزائر [10].
أثر ليبانتو على أوروبا والدولة العثمانية
احتفلت القارة الأوربية بنصر ليبانتو، فلأول مرة منذ أوائل القرن الخامس عشر تحل الهزيمة بالعثمانيين [11]، فهلل الأوروبيون وكبروا لذلك الانتصار، وأقيمت معالم الزينات في كل مكان، وأفرطت في التسبيح بحمد دون جون أمير الأساطيل المتحدة الذي أحرز هذا الانتصار، إلى حد أن البابا لم يتورع عن القول أثناء الاحتفال في كنيسة القديس بطرس، بمناسبة هذا النصر: "إن الإنجيل قد عنى دون جون نفسه، حيث بشر بمجيء رجل من الله يدعى حنا"، وظل العالم المسيحي ومؤرخوه ينوهون بهذا النصر البحري، حتى أن القواميس المدرسية الحديثة لا تذكر ثغر ليبانت، إلا وتذكر معه دون جون المشار إليه على اعتبار أنه أنقذ المسيحية من خطر كان يحيق بها [12].
لقد فرح البابا فرحاً عظيماً على الرغم من عدم ارتياحه؛ لأنَّ عدوه لا يزال عظيماً مرهوب الجانب، وحاول إثارة شكوك الشيعة الاثنى عشرية الصفوية ضد العثمانيين، مستغلاً بعض الضغائن والمشكلات والاختلاف العقائدي، فأرسل إلى الشاه طهماسب ملك العجم ومن جملة ما قال له:
".. لن تجد أبداً فرصة أحسن من هذه الفرصة لأجل الهجوم على العثمانيين، إذ هم عرضة للهجوم من جميع الجهات ..." [13].
وأرسل يستعدي ملك الحبشة وإمام اليمن على الدولة العثمانية ولكن المنية عاجلته [14].
إن نتيجة معركة ليبانتو، كانت مخيبة لآمال العثمانيين، فقد زال خطر السيادة العثمانية في البحر المتوسط ومع زوال الخطر، زال الخوف الذي كان قوياً، للمحافظة على حلف مقدسي دائم و استعاد الحسد والغيرة نشاطه بين الدول المسيحية [15].
إن أهمية ليبانتو كانت عظيمة وأسطورة عدم قهر العثمانيين قد اختفت، ولم تعد للوجود ثانية على أقل تقدير في البحر، وأزيح ذلك الخوف عن قلوب حكام إيطاليا وإسبانيا، وتزعزع تأثير الدولة العثمانية على سياسة القوى الغربية لأوروبا، إذ كانت من الحقيقة القوات العثمانية هائلة في كل المجال البري والمجال البحري [16]، كما أن الانتصار المسيحي في ليبانتو كان إشارة لتحضير حاسم في ميزان القوة البحرية في البحر المتوسط، كما أنه أنهى عصراً من عصور العمليات البحرية الطموحة في البحر المتوسط، والتي تكاليفها باهظة [17].
لم يعد يفكر العثمانيون بعد تلك الهزيمة في إضافة حلقة أخرى إلى سلسلة أمجادهم البحرية [18]، إذ كان هذا الانكسار نقطة البداية نحو توقف عصر الازدهار لقوة الدولة البحرية [19].